بيلسان

............

02 April, 2007

)نساء فلسطينيات في الانتفاضة (الاخيرة

قالت له: وداعاً ولم تبك. طبعت علي جبينه قبلة حارة. وقبلت سلاحه، وانزوت في غرفتها تدعو له بالتوفيق
ام لصحيفة اسرائيلية: هذه ظروف صعبة دون أدني شك لكنني لا أشعر بالأسف. مستعدة للتضحية ببقية أولادي


غسان دوعر
الحمد لله الذي رزق ابني الشهادة لعل ما قامت به أم الشهيد محمود العابد أو أم الشهيد محمد فرحات أو أخريات من الأمهات الفلسطينيات اللواتي قدمن فلذات أكبادهن بأيديهن للشهادة، واهتز لهن العالم، وعجزت أمامهن الكلمات التي تصف أماً تضحي بابنها لأجل أن ينعم شعب بحريته، يعتبر تصرفاً غريباً للبعض لكنه ليس بالأمر الغريب علي أمهات اشتعل الإيمان في أعماقهن، فجعلن من حياتهن وقوداً للجهاد والمقاومة.
والحاجة نعيمة واحدة من هؤلاء، وليس هذا فحسب، بل انها آثرت إبراز دورها والمكاشفة بصنيعها، رفعاً للروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وتحفيزاً لكثير من الأمهات علي سلوك ذات الدرب، وممارسة ذات الدور والصنيع، تأسيساً واقتداءً.
ومن هنا، جاء حديثها عن ابنها الشهيد: كنت أملك أن أمنعه من الذهاب لتحقيق أمنيته بالشهادة، وبفضل الله عز وجل أن ابني بارّ بي لا يغضبني أبداً وينفذ ما آمره به وهو حريص علي إرضائي، ولكني خفت من الله إن منعته أن يحاسبني الله الذي أمر بالجهاد في قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)، وأيقنت أن الأعمار بيد الله عز وجل وأنه انتهي عمره ولن يستطيع أحد أن يرده إلي الحياة مرة أخري، فربما لو منعته من الجهاد يموت علي الفراش أو حادث طرق أو غيره دون أن يظفر بالشهادة فلأدعه يفز بالشهادة وأمر الله ماض.
ومحمود خرج مرتين لتنفيذ عمليته الاستشهادية، ولكنه كان يعود في كل مرة لأن عمره لم ينته بعد، أما في المرة الثالثة، فكتب الله له الشهادة، وأرجو أن يتقبلها الله منه ويجمعني به في مستقر رحمته.
أنا لم أبارك عمله إلا عندما تأكدت أنه عازم حقيقة علي تنفيذ عملية استشهادية، ولا أنكر أني حزنت في البداية وتألمت مثل كل أم تتمني وتحلم بأن يكبر ابنها لتفرح به.وكثرة الأحداث والقتل والتدمير جعلت كل نساء فلسطين مهيآت لخوض غمار الجهاد، بالإضافة إلي أن زياراتنا المتكررة لأمهات الشهداء زرعت الجرأة في قلوبنا، رغم أنه لا يوجد أحن من قلبي وأضعف منه، وخاصة علي محمود أحب أبنائي إلي، وظفره الصغير الذي يلقي به لا تعدله كنوز الأرض جميعاً أمامي، ولكن أوضاعنا وجرائم الاحتلال تحتم علينا أن نضحي من أجل أن نسعد غيرنا ونستعيد حريتنا ونحافظ علي ديننا.
ولا أنكر أنني بكيت عندما شاهدت صور والدة الشهيد أم محمد فرحات وهي تودع ابنها، ولكن عندما أصبحت مكانها لم أبك علي ولدي عندما فارقني وانتقل إلي ربه شهيداً، كنت أحاول أن أستفيد من تجارب أمهات الشهداء السابقين لولدي أسألهن عن سر صبرهن ودفعهن لأبنائهن لخوض الجهاد، والحمد لله اني صبرت ولم أذرف الدموع علي ولدي.الوداع ليس بالأمر السهل علي قلب الأم، وربما الساعات التي يقضيها خارج المنزل تمر عليها كسنوات عجاف، فلا تدري ما مصير ولدها، وهل هو علي قيد الحياة أم أنه في المعتقل، وتبدأ تغرق في هواجس الخوف علي ولدها، رغم أنني كنت أحاول أن أسلي نفسي بعمل المنزل، وأن لا أفكر في أمره حتي لا أنشر الرعب بين باقي إخوانه، لذلك رجوته في المرة الثالثة أن لا يودعني ويتوكل علي الله. وفي صباح يوم السبت عاد إلي المنزل في الساعة العاشرة تقريباً، وكان متعباً كثيراً ومرهقاً وكأنه لم يتذوق النوم منذ أيام، فاستلقي علي أقرب فراش أمامه وغرق في نوم عميق، ونظرت إليه وكأنني لأول مرة أشاهد ولدي، فهو مرهق كعاشق يحلم بالوصول إلي أمنيته، فدعوت الله حينها بقلب صادق أن يقبله شهيداً ويحقق له أمنيته لعله يرتاح من هذا العناء الطويل . وتواصل الحاجة نعيمة حديثها وتقول: وكان حقيقة في هذا اليوم هو آخر لقاء به.
ومع تمام الساعة الثانية تقريباً، إذ بطفلي الصغير يبشرني أن مجموعة من الشبان اقتحموا مستوطنة في شمال قطاع غزة، ولم أعط اهتماماً لهذا الموضوع، فأنا أعلم أن محموداً خرج في عملية اقتحام علي دورية لجيش الاحتلال خارج المستوطنة، ولكن سرعان ما بدأ يتضح الأمر، فأيقنت حينها أن محمود علي خط النار وفي قلب الصراع، لأعيش أصعب لحظات حياتي، فأخذت أدعو الله أن يسدد رميته، وأن يقبله شهيداً، ولا يمكن الأعداء منه، وإن كان قلبي يحترق علي ولدي لحظة الفراق، ولكن الشهادة أغلي وأقوي من أي عواطف، والشهادة خير من الدنيا وما فيها . إياكن أن تبكين بل زغردنوفي منزلها الواقع بحي الشيخ رضوان، استقبلت والدة الشهيد المهنئين والمهنئات بالحلوي والزغاريد، واصطفت شقيقات الشهيد يستقبلن المواسيات لهن، والابتسامة تعلو شفاههن، وهن يواسين المعزيات لهن ويرجونهن ألا يذرفن الدموع علي شقيقهن، بل يطلبن من الله له الرحمة والمغفرة، وأن يقبله شهيداً.
ولم يختلف الأمر كثيراً لدي شقيقته الكبري غادة التي بادرت بقولها: اليوم عرس محمود، أخيراً رزقه الله بالشهادة، سنزفه، وسنغني له عندما يؤتي به لنلقي نظرة الوداع، فهو حقاً عريس، وسبقني إلي الشهادة وإلي الجنة لأنه يستحقها . وما هي إلا لحظات حتي قيل إن جثمان الشهيد محمود قد أحضر كي يتمكن ذووه من إلقاء نظرة الوداع عليه فنهضت و قامت بتجهيز طاولة كي يوضع عليها جثمان ابنها قائلة للحضور: لا أريد ضجيجاً عندما يأتي محمود، أريد أن آخذ راحتي معه ، ونظرت إلي إخوته وعمّاته وخالاته وأضافت: إياكن أن تبكين، بل زغردن حال وصول الجثمان الطاهر، فهذه وصيته وأنا وعدته بتنفيذها .
وبعد أن دخل جثمان الشهيد المنزل، علت الزغاريد من أفواه النساء، ثم وضع جثمانه علي الطاولة التي جهزتها أمه بيديها، وجلست تقبله بهدوء وتمسح وجهه بيديها ولسانها يلهج بالدعاء له أن يتقبله الله شهيدا في سبيله ويدخله فسيح جناته.
وأمام المنزل تجمع الآلاف وما أن خرج جثمان الشهيد من بيته بعد أن ودّعه أهله وذووه، حتي انطلق الموكب الجنائزي المهيب بمشاركة الآلاف نحو مسجد (أمان) القريب، وهو المسجد الذي كان محمود معتاداً علي الصلاة فيه وبعد صلاة الظهر أديت صلاة الجنازة علي روح الشهيد، ثم انطلقت الجنازة، وأطلق بعض المسلحين النار في الهواء تكريماً لروح الشهيد، في حين قامت عناصر من الجناح العسكري لحماس بحمل الجثمان وسط هتافات غاضبة متوعدة ومطالبة بالثأر ومواصلة طريق المقاومة والانتفاضة.

والدة الاستشهادي محمد حلسا

الكثيرون ممن لا يفهمون فلسفة الموت والحياة في الإسلام، ولم يتعرفوا إلي المجاهدة أم نبيل، والدة الاستشهادي محمد أحمد حلس، وجد صعوبة كبيرة في استيعاب معني وداع الأم الفلسطينية لابنها وإعداده للجهاد، مع أن حال أم نبيل المكلل بالأنفة والثبات والاحتساب لم يكن طارئاً أو معزولاً، فقد جاء في سياق عزيز وأصيل، فهي الخنساء الثالثة في فلسطين بعد الخنساء الأولي والدة الشهيد إبراهيم نزار ريان التي ودعت ابنها قبل اقتحامه مستوطنة ايلي سيناي شمال قطاع غزة، والخنساء الثانية أم نضال فرحات التي ودعت ابنها بحرارة قبل مهاجمته لمستوطنة عتصمونا ليوقع فيهم القتل والتدمير.

بيد أن عمق التربية التي تشربها محمد لم تقنعه بالمشاركة التقليدية في أعمال وفعاليات المقاومة كما هو حال عدد كبير من المجاهدين، بل أراد أن يكون متميزاً في كل شيء، وأن يرتقي مرتقيً نوعياً في مساره المقاوم، يحقق له أمانيه، ويشبع له رغباته، ويقرب بينه وبين أغلي طموحاته: الشهادة، التي وضعها نصب عينيه هدفاً أولاً وأخيراً، ولم يقبل لها تحويلاً، أو يرضي سواها بديلاً.

وما أن اتخذ قراره، وحسم شأنه وخياره، حتي بادر بالتخاطب مع المسؤولين لم يكن محمد بحاجة إلي جهد كبير وعناء لإقناع مسؤوليه، فسيرته المشرفة، وجهوده الدؤوبة، وعطاؤه الفياض، كانت كلها كافية لاحتلال موقع متقدم في أجندة التخطيط والإعداد للعمليات الجهادية القادمة. وكان لمحمد ما أراد وتمني، إذ لم يمض وقت طويل حتي رشح لتنفيذ عملية عسكرية ذات صبغة استشهادية داخل إحدي مستوطنات غوش قطيف، ليبدأ رحلة الإعداد والتجهيز لميقات التنفيذ، ويبدأ يعدّ الأيام والليالي المتبقية التي تفصله عن موعده مع الشهادة، وموعده مع لقاء الله تعالي، ولقاء الأحبة الكرام من النبيين والشهداء والصالحين والأخيار وحسن أولئك رفيقاً.

الشهيد محمد فتحي فرحات هو الصديق الحميم للشهيد محمد أحمد حلس، حيث تربي الاثنان في مسجد الإصلاح وكانا من أشباله، يشاركان في نشاطات المسجد مع بعضهما، بل ويجلسان في المسجد بجانب بعضهما. وبعد استشهاد محمد فرحات أبي محمد حلس إلا أن يلحق به، حيث أقسم محمد حلس في جنازة محمد فرحات أن يلحق به قائلاً: والله لألحقنك يا محمد . وبالفعل، ابر محمد حلس بقسمه ونفذ عمليته ليلتقي مع حبيبه في جنات النعيم. وحول واقعة استبداله تقول والدته: لم أرَ محمداً حزيناً بهذا الشكل طيلة حياتي، جاءني وقلبه مملوء بالحزن والحسرة، إذ انه كان يتمني أن يكون هو المنفذ وقلت له: سيأتي عليك يوم قريب وتنفذ عملية أخري في قلب الأعداء، و ها هي جاءته الفرصة وقام بتنفيذ العملية في مستوطنة نتساريم ونال الشهادة التي أحبها وتمناها . وتضيف أم نبيل: الشهيدان تنافسا علي تنفيذ العملية في مستوطنة عتصمونا، وأصر كل منهما علي أن ينفذها هو ويفوز بشرف الشهادة ورفض كل منهما التنازل للآخر، حينها قرر الإخوة القائمون علي العملية ترك الأمر للشهيدين لتسويته بينهما.

واتفق الشهيدان علي أن يصلي كل منهما صلاة الاستخارة وينتظرا ماذا يقرره الله سبحانه وتعالي. وبالفعل، فقد صلي الشهيد محمد فرحات صلاة الاستخارة وتوجه بعدها إلي بيته ونام. وبعد فترة رن جرس هاتفه النقال ليخبره الإخوة أنه قد وقع عليه الاختيار لتنفيذ العملية، حينها أخبر محمد فرحات أمه أنه في اللحظة التي رن فيها الجوال كان هو يحلم أنه هو من سينفذ العملية في مستوطنة عتصمونا. وحينها اقتنع الشهيد محمد حلس بهذا الاختيار، وودع رفيقه وأخاه المجاهد علي أمل أن يلتقيا في جنان النعيم. وما هي إلا أيام قليلة حتي أوفي محمد حلس بقسمه ولحق بأخيه المجاهد محمد فرحات ليسطرا معاً صور الأخوة والإقدام، تنافسا في الدنيا والتقيا في الآخرة .

وجّه سلاحك بدقة في وجه الأعداءفي ثنايا هذه التطورات كان محمد يطلع والدته علي كافة التفاصيل، ويضعها في صورة المستجدات الحاصلة، فكانت تشجعه وتأخذ بيده، وتشحذ همته، وتعلي من عزمه، وتشد من أزره، وتبقي علي درجة حماسته وتفاعله وثباته عالية دون نقصان. وما هي إلا أيام قليلات حتي كان التخطيط للعملية الجديدة قد استكمل مداه، واستجمع تفاصيله، ليبدأ العد التنازلي للتنفيذ، ويبدأ محمد مرحلة جديدة في حياته، مرحلة ملؤها الفرح والسرور، ملؤها الشوق للشهادة واستقبال الآخرة، بروح شفافة، ونفس مطمئنة، وقلب عامر بالإيمان، والثقة بنصر الله.وكما بدأ محمد مرحلته الجديدة، بدأت أم نبيل مرحلة جديدة في حياتها أيضاً، إذ لم يعد يفصلها عن استشهاد ابنها ومحبوبها وفلذة كبدها، ومفارقته، سوي أيام بل ساعات معدودات، مع ما يعنيه كل ذلك للأم وما تختزنه في قلبها من حب وحنان، وما تملكه بين جوانحها من عاطفة أمومة جامحة لا تضاهيها أية عاطفة إنسانية علي الإطلاق.

ومع ذلك، عضت أم نبيل علي آلامها وأحزانها، وتجاسرت علي مشاعرها وعواطفها، موكلة أمرها إلي الله تعالي، محتسبة كل ما قد يصيبها عنده سبحانه، موقنة أن حب الله يجب أن يعلو أي حب آخر، وأن التضحية في سبيل الله تقتضي بذل الأغلي، وتقديم الأحب، وعدم البخل علي الله بأي شيء كان، مهما كان جليلاً، أو بلغت درجة كبره وعظمته، ومستوي أهميته وحساسيته.كان مشهد الوداع بين محمد ووالدته في سياق شريط فيديو مصور، ظهرت فيه أم نبيل تمتشق البندقية، وتزين جبهتها بعصابة خضراء موشحة بكلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله ، إلي جوار زوجها أبو نبيل، وتهمس لولدها محمد بكلمات حثته فيها علي الثبات والجلد في مواجهة الأعداء، ودعت له بالتوفيق والسداد، وأن ينفذ عمليته بنجاح وينال الشهادة التي تمناها، وقالت له: اذهب علي بركة الله وعد شهيداً كما تمنيت، واطلب من الله ألا تصاب بجروح وتقع أسيراً في يد الاحتلال، بل عد إليّ شهيداً .

وتابعت أم نبيل: كنت أعلم بموعد تنفيذ العملية بالضبط، وقبل أن يخرج، من المنزل عصراً ليتوجه إلي مستوطنة نتساريم يوم 12/3/2002م احتنته وقبلته بحرارة ودعوت له بالتوفيق، وقلت له: ها هو الموعد قد أزف، وأنا أنتظر أن تعود إلي شهيداً، وأوصيته: كن صامداً وصبوراً وصابراً، ووجه سلاحك بدقة في وجه الأعداء.

وقلت له خذ أمتعتك ولا تترك للأعداء الفرصة لقتلك قبل أن تثأر منهم لأبناء شعبك وأهلك، وبعد خروجه من المنزل وتوجهه إلي المستوطنة بقيت أصلي طيلة الوقت، وانتظرت الخبر السعيد، خبر استشهاده .

وتصف والدة الشهيد اللحظات الأخيرة التي سبقت تلقيها نبأ استشهاده قائلة: كانت فترة عصيبة جداً كنت فيها علي أعصابي، أدعو وأصلي لله، وقد صليت صلاة الاستخارة بأن يعود إلي ابني محمد شهيداً وقد نفذ عمليته بنجاح، صليت حوالي أربع مرات طيلة الليل، ولم أذق طعماً للنوم، والحمد لله نلنا ما تمنيناه .قالت له: وداعاً ولم تبك، طبعت علي جبينه قبلة حارة، وقبلت سلاحه، وانزوت في غرفتها تدعو له بالتوفيق والسداد، وحين جاءها خبر استشهاده أطلقت زغرودة عطرة، وتحدثت عنه بفخر منقطع النظير، ولسان حالها يقول: إن الأم التي لا تودع ابنها إلي الشهادة أو الزنازين بالزغاريد لا هي حملت ولا ولدت.

وإثر تلقيها نبأ استشهاده تؤكد أم نبيل أن فرحتها كانت لا توصف، وأنها شكرت الله تعالي علي تشريفها باستشهاد ابنها، متمنية علي الله أن تلتقي به في مستقر رحمته يوم القيامة، وتمضي والدة الشهيد في حديثها الصريح وقد رسمت ابتسامة فخر علي شفتيها تقول: كنت قد اشتريت الحلوي وأعددتها قبل خروج محمد من المنزل، ولم يعلم بذلك أحد، وما أن تلقيت نبأ استشهاده حتي قمت بتوزيعها علي الجيران وأطلقت زغرودة .

وتسترسل أم نبيل في حديثها عن نجلها الشهيد، موضحة أن محمداً استشهد وما زال الرصاص داخل جسمه، مشيرة إلي إصابته ثلاث مرات منذ اندلاع انتفاضة الأقصي، حيث كان دائم المشاركة في المواجهات في العديد من الأماكن، حيث شارك في المواجهات قرب مستوطنة نتساريم ومعبر بيت حانون ومعبر المنطار، وأصيب ثلاث مرات بجروح مختلفة، ولا زالت رصاصة صهيونية تجثم في قدمه اليسري لدي إصابته برصاص الاحتلال في مسيرة المليون التي شارك فيها الآلاف من أبناء شعبنا قبل اندلاع الانتفاضة، وتضيف أم نبيل وقد غلبت عينيها الدموع: لو لم يذهب ابني للاستشهاد يوماً، لكان قد توفي في فراشه، فهذا قدره، وقد علمني بصبره وإيمانه كيف أباركه حتي اللحظات الأخيرة من توجهه إلي المستوطنة .

وتؤكد أم نبيل أن ابنها الشهيد خلف وراءه ذكريات عطرة لا يمكن أن تنساها، فقد كان دائم الابتسام والمداعبة مع إخوته وأصحابه في المنطقة، وكانت أعماله كلها جيدة، مشيرة إلي أن محمداً سيظل عالقاً في أذهان أهله إلي أن تقوم الساعة، وأنها ستبقي تذكر خطواته عند عودته في وقت متأخر من الليل، وعند عودته من المسجد.وفي عرس شهادته وقفت أم نبيل، بكل ثبات وشموخ، تستقبل المهنئات في ثياب الحداد، ودون أن تلطم الخدود وتشق الجيوب، بل وقفت تستعرض أمام مهنئيها شريط ذكرياتها مع نجلها، وأبرز المحطات والمواقف المفصلية في حياته قبل أن يرتقي إلي العلا شهيداً، وتزغرد قائلة: أحتسبه شهيداً عند الله ، وتدعو الله له بقولها: اللهم اجعل هذا العمل في ميزان حسناته، يا رب أنت أعلم وأدري بالحال، ولكن الموت في ظل المقاومة أفضل ألف مرة من الموت علي فراش المرض .

والدة الاستشهادي إبراهيم ريان

الدكتور نزار عبد القادر ريان، استقبل المهنئين بشهادة ولده إبراهيم وهو يقول وإشراقة الفرح تملأ وجهه: اليوم عرس إبراهيم؛ فهو أول المجموعة المجاهدة من أسرتي، وأنا فخور به وبعمله؛ لأن الوطن ما زال يحتاج منا لمزيد، وسنبذل أرواحنا حتي نعود إلي قرانا ومدننا التي هُجّرنا منها؛ إبراهيم رجل رغم صغر سنه، وكنت أتوقع من شاب مثله أن يقدم مثل هذا وأكثر للوطن؛ فهو نشأ علي حب الجهاد والاستشهاد . وتابع الدكتور نزار بالقول: خرج إبراهيم كعادته في الصباح لمدرسته، فهو طالب في الصف الثالث الثانوي قسم أدبي في مدرسة أحمد الشقيري في معسكر جباليا، ولكنه علي غير عادته عاد إلي المنزل قرب الساعة الحادية عشرة صباحاً، ثم خرج ثانية دون أن يودّعني أو يشعرني بلحظة الوداع.

وفي المساء جلست أستمع لنشرة الأخبار وتفاصيل العملية الجهادية وجرأة المجاهدين علي اقتحام المستوطنة وأنا لا أدري أن ولدي من بينهم، فقمت وتوضأت وأخذت أصلي لله عز وجل وأدعو ربي أن يثبّت رميتهم، حتي جاءني المبشّرون يزفون لي خبر استشهاد ولدي؛ فحمدت الله أن رزقه الشهادة، ورجوته أن يحتسبه عنده شهيداً . أما أم بلال، والدة الشهيد إبراهيم ريان، فلا تقل صبراً عن زوجها، حيث كانت تستقبل المعزيات بابتسامتها الهادئة قائلة: الحمد لله الذي استجاب لي ولدعوتي، وجعل من أبنائي شهيداً؛ كما كنت أدعوه في سجودي: اللهم اجعل من أبنائي شهداء وعلماء وحفظة لكتابك، واستجاب لولدي دعوته: اللهم أفرغ علينا صبراًً وثبّت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين، التي كان لا ينفك عن دعاء الله عز وجل بها .

وأكملت أم بلال بالقول: منذ أربعة أيام وأنا أقرأ الشهادة في وجه ولدي، وكنت أشعر أني لا أتحدث مع شاب من أهل الدنيا، بل هو من شباب الآخرة؛ فإشراقة وجهه وهدوؤه ونور قلبه وتعلقه بالله عز وجل كانت كلها تدل علي أنه مفارق لنا، وأنه سينتقل إلي جوار ربه. لذلك كانت دموعي تنهمر مني وأنا أتحدث معه دون إدراك مني أنه إحساس قلب الأم، ولكنه كان يبعد نظرات عيونه عني حتي لا يضعف أمام عاطفتي، ولكثرة إحساسه بما يمتزج في قلبي من آلام فراقه قبل أن يفارقه، لقد طلب مني أن أنام بجواره في آخر ليلة قضاها في المنزل علي غير عادته، وأخذ يقول لي: أخلصي الدعاء لله بأن يرزقني الشهادة؛ فلا تبخلي عليّ بدعائك، ثم سألني: إن خرجت للجهاد فهل ستمنعينني؟ فقلت له وبصدق: والله لن أمنعك، فرد علي قائلاً: فإن ذهبت للجهاد فلن أودّعك، فأكثري من الدعاء لي .

وتشير الأم إلي أنه في الصباح: خرج إبراهيم لمدرسته، ولكنه سرعان ما عاد علي غير عادته، فقبّل يدي وخرج ودموعي تنهمر وقلبي يعتصر ألماً وفرحاً بأن ابني أصبح شاباً مجاهداً مدافعاً عن دين الله؛ وعندما أوردت وسائل الإعلام الخبر، أحسست بأن ولدي هو من يحاصر الأعداء ويطاردهم، فخرجت لصلاة العشاء في المسجد ودموعي تنهمر، وعدت وأكملت الصلاة في البيت وقلبي يدعو له وللمجاهدين، وقلبي يؤكد لي أن إبراهيم هو أحد هؤلاء المجاهدين .

أم بلال سيدة مجاهدة من الطراز الأول، نشأت في إطار عائلة متدينة وملتزمة، هي عائلة تمراز، فهي ابنة الشيخ المجاهد عبد الرحمن تمراز أحد مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة الشمالية لقطاع غزة، ورفيق درب الشيخ أحمد ياسين، وأحد أعضاء الجهاز العسكري للإخوان المسلمين الذي أسسه الشيخ أحمد ياسين وتم اكتشافه عام 1984، ليتم اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات التي طالت عناصر هذا الجهاز، ويحكم عليه بالسجن لمدة أحد عشر عاماً. تزوجت أم بلال من المجاهد الدكتور نزار ريان، وعانت معه الغربة إبان مراحله الدراسية المختلفة، في سورية والأردن والسودان والسعودية، لتختتم جولتها العربية برفقة زوجها بالعودة إلي أرض الوطن، عازمة عزماً أكيداً علي عدم مفارقتها أو الخروج منها مرة أخري مهما كانت الأسباب والمبررات.

تتحدث أم بلال عن الأسباب والدوافع التي دفعتها لتقديم ابنها شهيداً في سبيل الله، فتقول: إن الذي دفعني لذلك، أولاً: هو تأثري الشديد برسالة الدكتوراه لزوجي التي كانت تتحدث عن الشهادة والشهداء، وثانياً: تأثري بقول الرسول صلي الله عليه وسلم حينما كان يقول لأحد أصحابه: (منا شهيد فهل منكم شهيد؟)، فقد حمسني هذا القول حماساً شديداً، مما دفعني للقسم بأن أهب وأقدم أبنائي الستة شهداء في سبيل الله، وثالثاً: مشاهدتي ومتابعتي للمجازر المتكررة التي يرتكبها العدو الصهيوني ضد شعبنا الفلسطيني الأعزل، وقتل الأطفال والنساء والرجال بدم بارد، وتدمير البيوت فوق رؤوس أهلها، وتجريف الأراضي واقتلاع الأشجار، واغتيال القادة الفلسطينيين، مما أحرق قلبي وأشعل صدري بنيران الغضب والانتقام من بني صهيون. ولكن امتلاكي لسلاح الإيمان، وشعوري بقوة العقيدة، وصدق انتمائي، وحبي الشديد لهذا الدين دفعني لكي أقدم ابني إبراهيم شهيداً في سبيل الله دون أي تردد أو تفكير .

أم الشهيد إبراهيم السعديبين

ذكريات الشهادة والشهداء، والاعتقال والسجون، تعيش أم إبراهيم وأسرتها في بيتها بمخيم جنين الذي يغيب عنه أغلي أحبتها بين شهيد ومعتقل: قتلوا اثنين من إخوانها واعتقلوا اثنين آخرين، وقتلوا ولديها وجدتهم وأخيراً اعتقلوا زوجها. هذه قصة نوال السعدي، زوجة الشيخ بسام السعدي، قائد حركة الجهاد الإسلامي في شمال الضفة الغربية، والذي اعتقلته قوات الاحتلال ونكلت به أشد تنكيل.

هذه السيدة التي لا تكاد تتجاوز الأربعين من العمر. ففي أيلول من العام 2001، اغتال جنود الوحدات الخاصة الإسرائيلية نجلها عبد الكريم، الذي كان ناشطاً في سرايا القدس بمخيم جنين، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، بعد أن كان مطاردا، بدعوي تجمع معلومات استخبارية تؤكد مشاركته في عمليات المقاومة في المنطقة.

فاستقبلت النبأ بالتكبير، وألقت رأسها فوق رأس فلذة كبدها في منظر فجر الحزن والدموع لدي كل من التف حولها، وهي تمسح وجهه وتردد: مبروك عليك الشهادة يا بطل، نلتها الله يصبرني، وإن شاء الله إحنا علي دربك ماضين والله والله ليدفعوا الصهاينة الثمن ، وطلبت أم إبراهيم من الجميع عدم البكاء علي عبد الكريم، لأنه بطل قاوم واستشهد وهو يتمني الشهادة.وبعد سبعة أشهر استشهد الابن الثاني إبراهيم، وهو توأم عبد الكريم، برصاص الاحتلال أثناء تصديه لقوات الاحتلال في إحدي عمليات الاجتياح التي تعرض لها المخيم. وعلي الرغم من قساوة الخطب وثقل المصاب، إلا أن نوال السعدي ظلت صابرة.

وفاجأت جاراتها ومعارفها اللواتي قدمن للمنزل يبكين إبراهيم، فما كان منها إلا أن طالبتهن بالكف عن البكاء والاكتفاء بالدعاء لنجليها عبد الكريم وإبراهيم.لحظات وذكريات رحلة المعاناة:مسلسل المآسي الذي توالي علي هذه الأم المجاهدة ابتدأ منذ أن اقترنت بالشيخ بسام راغب السعدي، الذي تفتخر بالاقتران به. وتقول انها لا تذكر أنهما عاشا معاً أكثر من شهر منذ الزواج الذي تم عام 1979.

فقد اعتقل جيش الاحتلال الشيخ بسام أكثر من عشر مرات، وفي أواخر عام 1992 من القرن الماضي، تم إبعاده إلي مرج الزهور في جنوب لبنان. وبعد عودته من الإبعاد، بعد عام بين الصخور ووسط أجواء من البرد والمطر والثلوج، اعتقل فوراً، وظل في السجن عدة أشهر. وتؤكد أم إبراهيم أنها أنجبت جميع أبنائها في غياب أبيهم، في وقت تكون المرأة في أمس الحاجة إلي وجود زوجها إلي جانبها. ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصي تحولت حياة عائلة نوال السعدي إلي جحيم حقيقي، فالزوج، القيادي في حركة الجهاد، أصبح مطلوباً، ولأنه رفض تسليم نفسه أصبح المنزل يتعرض للمداهمات. وبعد انضمام نجليها إلي الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي تكاثفت عمليات المداهمة للمنزل، وبعد ذلك قام الاحتلال بتدمير المنزل وإحراق منازل أشقاء الشيخ. فانتقلت العائلة إلي بيوت مستأجرة، ولكن جنود الاحتلال لم يتركوا هذه العائلة المجاهدة، حيث أخذوا يداهمون تلك المنازل ويطردونها منها. وفي إحدي المرات، داهموا أحد البيوت التي استأجرتها العائلة، وقام الجنود بالتحقيق مع الحاجة بهجة السعدي (75عاماً)، والدة الشيخ بسام من أجل أن تقدم لهم معلومات حول مكان اختفائه، ونظراً للضغوط التي تعرضت لها في التحقيق، توفيت تلك العجوز علي الفور، وشيع جثمانها دون أن يتمكن الشيخ من مرافقة أمه إلي مثواها الأخير.

وإلي جانب ذلك فان جنود الاحتلال قد أطلقوا النار علي عز الدين، نجل نوال الأصغر، فأصابوه في ساقه، وبعدها بأيام قام الجنود بقتل الطفل بسام غسان السعدي، ابن شقيق الشيخ بسام والذي كان يحبه بشكل كبير.تضحيات نوال السعدي لا تقف عند هذا الحد، ففي الانتفاضة الفلسطينية الكبري عام 1987 استشهد شقيقها محمد السعدي (21عاماً)، وكان مطارداً لسلطات الاحتلال، وكان شقيقها الثاني قد استشهد أيضاً علي أيدي جنود الاحتلال في عام 1982 أثناء دفاعه عن الثورة في لبنان، كما أن شقيقيها محمود وناصر معتقلان في السجون الصهيونية.

لم يعد في عائلة السعدي مطاردون بعد اعتقال الشيخ وتصفية نجليه، لكن خنساء فلسطين تشعر بحزن وحسرة شديدة كلما نهضت كل صباح من فراشها لتجهز أطفالها للمدرسة، بينما لا زال مقعد ابنها عز الدين في مدرسته فارغاً جراء غيابه القسري مع والده في سجون الاحتلال الصهيوني. وتتذكر أم إبراهيم أن المخابرات الصهيونية، وخلال اعتقالها الشيخ بسام، هددته باعتقال جميع أفراد أسرته، واستخدمت عز الدين كورقة للضغط عليه للإدلاء باعترافات، ثم نقلت عز الدين إلي سجن النقب وحولته للاعتقال الإداري دون تهمة أو ذنب.

ورغم تلك المآسي، نشرت إحدي صحف العدو الصهيوني مقابلة مع أم إبراهيم تحدثت فيها عن حياتها في ظل هذه الظروف حيث قالت: هذه ظروف صعبة دون أدني شك، لكنني لا أشعر بالأسف... إنني مستعدة للتضحية ببقية أولادي في سبيل الجهاد وفي سبيل فلسطين. وما أقوله إنساني إلي أبعد الحدود: ديننا يأمرنا بالجهاد، وكل من يؤمن بدينه يجب أن يسلك طريق الجهاد من أجل تحرير هذه البلاد والأقصي، عندما أقول: إنني مستعدة للتنازل عن أولادي فأنا أقصد ما أقوله فعلاً... إنني فخورة جدًا بأن يموت أولادي كشهداء، فهذه أجمل طريقة نعيد بها الهدية التي منّ الله بها علينا، حياتنا هدية من الله ونعيدها إليه بالموت كشهداء، كل شيء في سبيل ديننا وفي سبـــــيل فلسطين، فلسطين كلها لنا، لا أريد أن تتوقف الانتفاضة، أريدها أن تتوقف بعد أن نحرر الأقصي فقط... لا أندم علي هــــذه الحياة، فالجهاد هو طريقي أيضًا، لقد أدركت طيلة الوقت ما يؤمن به زوجي وأنا آخذ قسطاً في هذا النضال، أشارك في المظاهرات، وقمت بدفع ثمن شخصي .

0 Comments:

Post a Comment

<< Home