ثلاثة أسئلة جراء تشفير بث مباريات كأس العالم
(1) احتشاد المواطنين في المقاهي.. فرصة؟
المسألة التي تشغل بال كل من يتابع نمو الحركة المعارضة لنظام مبارك في مصر هي.. كيف تخرج حركة الاحتجاج ضد النظام من حالة (مئات) الناشطين الذين يعملون وحدهم بمعزل عن عامة الناس.. إلي حالة تصبح فيها (جموع) المحتجين بعشرات الآلاف؟ هذه هي المعضلة الأساسية.. كيف يتمكن هؤلاء الناشطون الذين يعدون بالمئات من حفز مختلف الفئات في الشعب المصري المنهك للمشاركة في ذلك الاحتجاج، وإقناعهم بأهمية تكثيف عدد المحتجين حتي يثمر النتيجة المرجوة: إسقاط العائلة الحاكمة التي أوصلت حياتهم إلي هذا الجحيم من الفقر والإذلال وضياع الكرامة.. وكشف الفساد والمفسدين.. والاستعداد لبناء مصر من جديد. حل هذه القضية لا يمكن تحميله لهؤلاء الناشطين وحدهم.. فقد قدموا أكثر من غيرهم عندما خرجوا إلي الشارع وواجهوا ـ ومازالوا يواجهون ـ قوات الأمن بصدورهم العارية.. إلا من إيمان حقيقي بضرورة التغيير كي يصير البلد الذي نعيش فيه وطنا حقيقيا.. وليس كما هو الآن.. سجن كبير. الإجابة علي (كيف) هذه لابد أن يدلي فيها كلٌ بدلوه.. فالفضائيات علي انتشارها وأهمية تأثيرها بل وأهمية الاستمرار في استغلال المتاح منها.. ليست كافية، لأنها أولا (لا تتبني) مباشرة قضية المصريين العادلة.. فهي مشغولة بالزرقاوي حيا أو ميتا.. حماسا أو كرها وثانيا لأنها لا تصل إلي كل قواعد المصريين.. فإذا كان الوصول إلي (جموع) المصريين تلك لحثهم علي المشاركة في صنع مستقبلهم ومستقبل أبنائهم هو المشكلة الملحة الآن.. فإن تجارب الأمم التي نجحت نخبتها في جذب قواعد شعوبها للخروج من السلبية والمساهمة في حركات التغيير تصب في حقيقة مؤكدة مفادها: الذهاب إلي جموع الناس وليس انتظار مجيئها ، صحيح ان إمكانيات حركة كفاية محدودة إلي حد عدم توفر ما يلزم كي تنتشر بين الناس ماديا.. أي بالعناصر والكوادر والمواد المطبوعة والمسجلة ووسائل التنقل حيث تترامي أطراف القاهرة نفسها عوضا عن باقي محافظات مصر.. إلا أن (العيشة الضنك) التي يحياها الناس قد تكون عاملا يسهل الاستجابة للخروج علي الحكومة، عدوتهم الأزلية منذ فجر التاريخ.. وهي حاليا تنتمي لنظام بدأ عده التنازلي ولا يحتاج إلا لتوحيد (الجموع) في مجابهته كي يهوي إلي دركه الأخير، والمسألة في أحد جوانبها ـ تكمن في أن (تذهب إلي) أكبر جمع من المصريين لتقول لهم ذلك ثم تتركه يتفاعل في نفوسهم في الأيام التالية، وطالما نجحت شركة ART في توصيل المصريين إلي هذه الحالة من الغضب لاحتكارها بث مباريات كأس العالم دون غيرها من القنوات.. واستعدت المقاهي لاستقبال تلك الآلاف من المصريين موفرة لهم فرصة مشاهدة ما حرموا منه في منازلهم.. فلماذا لا توضع (خطة عاجلة) للتواجد بينهم بأقصي قدر ممكن.. وبطريقة تجعل الحدث فرصة لإلقاء الحجر في مياه حياتهم الراكدة سياسيا؟ صحيح أن مثل هكذا خطة كان يجب الاستعداد لها مبكرا.. ولكن لم يفت الوقت.. فقط شيء من الذكاء في تنفيذها.. والذكاء في هذه الحالة يوجب أن ينتظر الناشطون إلي أن.. تنتهي المباراة.
(2) بعد الفن والرياضة والدين.. فيم سيتاجرون مستقبلا؟
لست من هؤلاء الذين يتابعون مباريات كأس العالم ولا حتي كأس عيال الحارة كما أني لا أعرف ـ ولا يهمني حتي أن أعرف ـ الفرق بين كرة القدم وتلك الكرات الأخري مختلفة الأحجام والألوان، لكن تشفير بث المباريات هو أكبر من مجرد حدث رياضي.. حدث يثير مزيدا من الشعور بالقلق والشجن و(الاغتراب) في عالم صار كل شيء فيه قابلا للاتجار به.. حتي الفن والدين والرياضة، كثيرا ما يحتج المتحمسون لليبرالية الاقتصادية ومفاهيم (حرية السوق) بأن المنافسة هي أم الابتكار والتقدم.. وهي السبب في تطوير (السلع)، لكن البشرية ظلت ولا تزال تعاني من هذه (الحرية الشرسة الجشعة) التي تتلاعب بحاجات الناس.. فتحرم منها من تشاء وتتيحها لمن تشاء.. طالما يملك ضخ الربح ومزيدا من الربح في جيوب هؤلاء (الأحرار) كانت السلع في البدء هي بالأساس حاجات الناس (المادية).. مواد الغذاء والكساء والبناء وغير ذلك من الحاجات اللازمة للحياة كوسائل التنقل وباقي وسائل عمران الأرض، لكن هذا التطور المروع لمفهوم (الاتجار بكل شيء) توحش مع وصول التكنولوجيا إلي ما هي عليه الآن.. فوصل إلي حد الاتجار بالفن والاتجار بالرياضة والاتجار بالدين والاتجار بكل ما هو جميل.. انضم اتحاد العالم لكرة القدم أو الاتحاد العالمي أو الفيفا أو أيا كان اسمه إلي تلك (الزمرة المتوحشة) المسماة بالشركات عابرة القارات.. فراح يبيع حق مشاهدة المباريات (لطالما كان ذلك الحق مشاعا متاحا لكل البشر طوال العقود الماضية) وراح يشتريه هؤلاء (الأحرار.. أحرار في الاتجار بكل شيء).. وبدأت جموع الناس في الأرض تذهل عاجزة أمام هذا النوع الجديد من التجارة الذي لا حول لهم ولا قوة أمامه.. كان الأمر قديما: كن فقيرا فلا تأكل ولا تلبس ولا تسكن.. لكنك كنت ما زلت حينها قادرا رغم فقرك علي التمتع بذلك (الجمال المشاع البعيد عن أنف التجارة).. الآن كن فقيرا فلا تأكل ولا تلبس ولا تسكن ولا تمتع عينك وأذنك وروحك بأي فن أو رياضة أو جمال للطبيعة والإنسان أو حتي جمال الله وحنانه.. كن فقيرا فلا تكون إنسانا بالمرة.في مدينتي.. الإسكندرية.. كانت الشواطئ متاحة كمساحة شاسعة يتمتع فيها الفقراء بجمال الطبيعة بأقل قدر من التكلفة.. فأغلق معظمها أمامهم عندما هجم هؤلاء (الأحرار) علي أفضل مناطقها وبنوا فيها المنتجعات التي لا يمكن للفقراء حتي أن يمروا أمامها، تاجروا في البحر ونسيمه.. بنوا حوله جدارا عازلا فقبع الناس في بيوتهم.. فإذا بهؤلاء الأحرار في الاتجار بكل شيء يشترون أصول الأفلام المصرية التي تشكل تراثا عزيزا علي المصريين فلم يعد ممكنا مشاهدتها إلا بشراء أجهزتهم وبطاقاتهم المشفرة.. فانتظر هؤلاء المطاردون مشاهدة مباريات كرة القدم العالمية فإذا بشركة أخري اشترت حق بيعها لمن يملك ثمن تلك البطاقة المشفرة.. يحاصر الفقراء ويحرمون لا من السلع المادية فقط ولكن يحرمون حتي من أي نوع من (التمتع) يمكن أن يكون متاحا لهم.. وكأنهم لا يستحقون لكونهم فقراء أن يبتسموا أو يمرحوا أو حتي يتفرجوا.. لم أشتر تلك البطاقة لأنني لا أهتم بكرة القدم.. لكنني أفكر فيمن أعرف من أهل وجيران وأصدقاء وفي تلك (الحسرة) التي تلوح في عيونهم وهم يعجزون عن شراء تلك البطاقة اللعينة.. ثم أفكر في هؤلاء المؤمنين بحرية السوق.. وفي هؤلاء الأحرار في الاتجار بكل شيء.. وأتساءل تري بم سيتاجرون في الأجيال المقبلة؟ الماء والهواء؟ تمر سريعا بخاطري أخبار جمعتها من مراكز البحوث تشير كلها بأن هؤلاء الأحرار يفكرون (يفكرون؟ بل يخططون) لبيع قناة السويس بل وبيع نهر النيل.. أحاول الاختباء من الفكرة.. أغمض عيني وأغطي رأسي هربا.. كأنني أحاول بالانكماش تحت الغطاء حماية للقناة والنهر من البيع. يكفينا ما تحمله جيلنا من آلام بيع أشياء لم نكن نفكر يوما أنها ستعرض للبيع.. حتي الإله باعوه لكنهم يبيعونه هذه المرة لهؤلاء الفقراء العاجزين عن المتعة علي الأرض صنف آخر من التجار يبيع الدين.. السلعة الوحيدة التي يغرون بها العاجزين عن شراء الأشياء الأخري.. يتاجرون في جنات الله وكأنها (منتجعات) توفر مجانا كل ما هو عزيز علي الأرض.. الخمر والحور العين والفاكهة والأعناب والزيتون يكسبون من بيع (منتجعات الله آجلة التسليم) ما يمكنهم هم ـ الآن ـ من شراء (منتجعات الساحل الشمالي).. الفقير إذن ـ وأمام عجزه المشهود عن شراء أية سلعة أرضية ـ هل تتصورون كم يكون مغريا له ذلك العرض علي يد التجار الشرعيين؟ فقط ادفع (روحك) ثمنا لحورية واحدة.. والباقي (فري).
(3) ماذا تضيف ملايين أخري إلي ملياردير؟
في برنامج ما وراء الخبر علي قناة الجزيرة نوقشت يوم الجمعة الماضي قضية تشفير بث مباريات كأس العالم وأدلي الضيوف كل بدلوه في المسألة.. تبين من النقاش أن تلك المشكلة لا تعاني منها مناطق أخري في العالم.. بقدر ما تعاني منها الشعوب العربية.. التي وقعت فريسة لواحد من هؤلاء التجار.. دفع لاتحاد كرة القدم العالمي مبلغا ضخما مقابل أن يستعيده من جيوب الناس مبلغا أضخم. لا تملك أمام تلك القضية إلا أن تفكر في هذا التاجر.. فهو من أغني أغنياء العرب.. يملك فضائيات وأراض ومشاريع في مجالات متنوعة هنا وهناك في أنحاء العالم العربي من المحيط إلي الخليج.. يخدمه قطاع كبير من المتخصصين في كل شيء حتي في الثقافة، يضيف إلي ملايينه ملايين أخري كل يوم.. تتساءل ماذا يفعل هؤلاء الأغنياء بتلك الأموال؟ هل حقا يحتاجون المزيد؟ لماذا؟ أي سلعة تلك التي تنقصهم؟ يحتاج البشر المال لتوفير مسكن ـ وليكن فاخرا ـ وسيارات ـ ولتكن فاخرة كذلك ـ ومصروفات تخدم تلك الأشياء الفاخرة وتجلب لهم كل الحاجات والأشياء اللازمة للاستمتاع بالحياة- مهما كان التصور لما هو ممتع ـ لكن إذا توفر كل ذلك.. ماذا تفعل بالأموال الزائدة؟ ماذا ينقص هؤلاء إلي درجة أنهم تحت (ضغط الحاجة) يتجهون إلي ابتزاز الناس وسرقة القليل المتبقي في جيوبهم المهترئة؟ هل هم من هؤلاء الذين ربما ترّصدهم أحمد مطر.. الشاعر الجميل.. في قصيدة عنوانها (المفتري عليه)؟ وفيها يقول ذلك المفتري عليه: رصيدي كله ليس سوي عشرين مليارا.. فهل هذا كثير؟ آه لو يدري الذي يحسدني كيف أحير.. منه مأكولي ومشروبي وملبوسي ومركوبي.. وبترول الفوانيس وأقساط السرير.. ما الذي يبغونه مني؟ أأستجدي لكي يقتنعوا أني فقير؟... يقولون ضميري ميت؟.. هل أتاهم خبر عما بنفسي أم هم الله الخبير؟ كذبوا.. فالله يدري.. أنني من بدء عمري.. لم يكن عندي ضمير .
هويدا طه
كاتبة من مصر - عن القدس العربي
0 Comments:
Post a Comment
<< Home