بيلسان

............

27 February, 2007

كليو ـ مصر و ليز ـ باترا


صبحي حديدي

في الموقع الرسمي لجامعة نيوكاسل البريطانية، علي شبكة الإنترنيت، نقرأ النصّ التالي: أنتوني وكليوباترا لم يكونا ذلك الجنرال الوسيم وتلك الملكة الجميلة كما أرادتنا هوليود أن نعتقد، وذلك طبقاً للخبراء في جامعة نيوكاسل، الذين درسوا عملة رومانية تصوّر أحد أكثر الأزواج الرومانتيكيين مأساوية في التاريخ .
وهذا استهلال عجيب بالفعل، إذْ يحيل إلي هوليود للتعليق علي مادّة يُفترض أنها تاريخية وعلمية وأركيولوجية، خصوصاً وأنّ التقرير الجامعي هذا يذهب أبعد في تفنيد الصورة الهوليودية فيضيف أنّ العملة تُظهر كليوباترا ذات جبهة ضيقة، وأنف طويل معقوف، وشفتين مزمومتين وذقن ملتوية للغاية .
وأخيراً، تصرّح لندسي ألاسون ـ جونز، مديرة المتاحف الأثرية في الجامعة، أنّ الصورتين علي العملة أبعد ما تكونان عن ريشارد برتون وإليزابيث تايلور! ورغم أنّ قطعة واحدة تظهرها غير جميلة، أو حتي دميمة، لا تطمس صورتها المخلّدة في مئات الوثائق الأثرية، من التماثيل إلي الأختام إلي واجهات المعابد، فإنّ هذه الضجة الجديدة التي أثارتها الجامعة البريطانية تعيدنا مرّة أخري إلي الجاذبية الفريدة التي اكتنفت شخصية الملكة المصرية الشهيرة، وما اقترن بحال الافتتان تلك من سلسلة تناقضات.
قاموس هالويل وصفها بـ أكثر النساء مكراً في التاريخ ، وشروحات أخري قالت إنها نسق متكامل من الحكمة النسوية، وموضوع جنسي محض، وعاشقة صادقة رقيقة أحبّت وأفنت نفسها في سبيل مَن تحب، وأميرة شجاعة وطنية، وحاكمة طاغية، وطفلة عابثة، وأنثي عتيقة كالخطيئة..
.لكنّ كليوباترا السابعة لا تنأي كثيراً عن ذلك الوصف البليغ الذي أطلقه الشاعر الفرنسي الرومانتيكي تيوفيل غوتييه سنة 1845: لم تنجب الأرحام امرأة أكثر كمالاً... إنها أكثر النساء امتلاكاً للمعني النسوي، وأكثر الملكات تجسيداً لمعني أن تكون المرأة ملكة. إنها جديرة بتمعّن عميق، فهي المرأة التي عجز الشعراء عن إضافة جديد علي ماهيتها، وهي التي يلاقيها الحالمون في النقطة القصوي من أحلامهم .
وهذا، بالطبع، وصف لا ينجو جزئياً من عقدة رفع كليوباترا إلي مصافّ فائقة، تختفي في طيّاتها الأعمق تلك الفكرة المحورية التي هيمنت علي تسعة أعشار نماذج تصوير أهل الغرب لأهل الشرق: ترقية الأنثي الشرقية إلي مصافّ حسّية شهوانية أو رومانسية طهرانية، عابرة للخصال الإنسانيّة والبشرية المحضة. وأمّا الأوصاف الأخري التي لا تنجو البتة من هذه العقدة، بل علي العكس تنطلق منها جوهرياً، فإنها تذهب مذهب الكاتب والشاعر الإيطالي جيوفاني بوكاشيو الذي قال، في أواسط القرن الرابع عشر، إنّ جسد كليوباترا اكتسب نعومته من لذائذ كبري، واعتاد علي أرقّ الاحتضان، فكان طبيعياً أن يعانقها في النهاية ثعبان قاتل .
وبين أفضل المراجع عن موقع كليوباترا في المخيال الغربي، هنالك كتاب ماريا وايك عشيقة الرومان: تمثيلات عتيقة وحديثة ، مطبوعات جامعة أوكسفورد، الذي يناقش علي نحو معمّق فكرة الأنثي التي يلتقيها الرومانيّ الفاتح هنا وهناك في أمصار الإمبراطورية، فيتخذها عشيقة ويكون لها أدوار سياسية أو ثقافية في حياة الإمبراطورية. وترصد وايك تمثيلات هذه المرأة ـ العشيقة كما انعكست لاحقاً في المجتمعات الإيطالية والبريطانية والأمريكية، وكما أخذت تتجلي في مختلف أشكال الثقافة الشعبية، أي في السينما والمسرح والتلفزة والإعلان. كذلك تتوقف بالتحليل عند النماذج التي رسّخها في الذائقة العامّة عدد من الشعراء في العصور القديمة، أبرزهم ثلاثي المراثي بروبرتيوس وتيبولوس وأوفيد، حيث تنقلب مرثاة العشيقة إلي مديح مبطّن للإمبراطورية والتفوّق الذكوري في آن.
وهكذا فإنّ من الطبيعي أن تحظي شخصية كليوباترا بحصّة وافرة في هذا النوع من النقد الثقافي العميق الذي انكبّت عليه وايك، خصوصاً في تنقيبها عن الرسائل الخافية في عشرات الأمثلة، وأشهرها ربما شريط هوليود الشهير الذي أخرجه جوزيف مانكفيتش واستحقّ بالفعل لقب ليز ـ باترا نسبة إلي ليز تايلور. قبله شاهدنا ملكة مصر في دور فاسقة قاتلة (تمثيل كلارا باو)، وماجنة شريرة انتهازية (كلوديت كولبرغ)، وبغيّ في إهاب ملكة (روندا فلمنغ)، فضلاً عن صوفيا لورين في بدء صعودها، وليلي لانغتري، وسارة برنار...
وبالطبع، كان لا بدّ من تمثيل كليوباترا في صورة مصاصة دماء الرجال، الفيلم الصامت الذي أنتجته شركة فوكس سنة 1917 ولعبت فيه دور البطولة ثيوديشيا غودمان، التي اتخذت لنفسها اسم Theda Bara، الجناس الذي إذا قُلبت حروفه فإنه سيشكل عبارة الموت العربي ، مع تصرّف طفيف في تبديل موقع حرف واحد. والتأويل هذا ليس من عندنا، لمن يهمّه الأمر، بل هو راسخ في المعاجم والموسوعات الغربية.وهكذا، ولأنّ الشرق انقلب إلي رغبة متخيَّلة، في هيئة امرأة متخيَّلة تجري إعادة تمثيلها بحيث تشبع رغائب مَنْ يتخيّلون، فقد توفرت عشرات الـ كليوباترات الغربية، حسب الراغبين والرغائب، في كلّ عصر وحقبة، ولكلّ جيل وذائقة.
ليس عجيباً، إذاً، أن تكشف جامعة نيوكاسل النقاب عن القطعة النقدية المعجزة في يوم عيد الحبّ تماماً، 14 الماضي، عن سابق قصد وليس بالمصادفة؛ وأن يتعالي في الغرب كلّ هذا الضجيج حول اتضاح الفارق الجمالي بين ليز ـ باترا الهوليودية الغربية، و كليو ـ مصر التاريخية الشرقية!0.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home