بيلسان

............

28 February, 2007

الحد الثاني لسلاح الاغتصاب





كل سلاح تقريبا ذو حدين, ولكن كلما ازداد مضاء حد السلاح ازدادت فرصة انقلاب أثره إلى الضد, وهكذا هو الاغتصاب.
فاغتصاب نساء الخصوم أثناء المعارك أو بعد الغزو أو الاحتلال أحد أقدم الأسلحة السياسية, وكان يمارس علانية بحيث توزع نساء المهزومين سبايا على المنتصرين.
وإذا كان شيئاً من اللجم لهذه الممارسة قد وجد طريقه إلى التشريعات الدولية باسم حقوق الإنسان وحقوق المرأة, فإن حكمة القادة الكبار ذوي الطموحات الكبيرة عبر تاريخ البشرية كانت سباقة لإدراك ضرر هذه الممارسة المؤكد على نجاح مشاريعها الطموحة تلك.
ومن هؤلاء الإسكندر المقدوني الذي عمد إلى عكس هذا تماماً, إذ اشترط على جيشه بناء جسور مودة مع شعوب البلاد التي غزاها, وزوج العديد من جنوده بنساء تلك البلاد ليستقر لهم المقام فيها وتتوحد الأرض الجديدة مع مقدونيا بتوحد الشعوب بما لا يقل عن النسب و"أبناء الحب" وليس الاغتصاب.. كما شدد غيره من قادة القبائل الغازية في تاريخ أوروبا القديم، العقوبة على المغتصبين من جنوده حتى وصلت إلى خصيهم علنًا.
ولأن الحقيقة لا يمكن أن تصدر الآن عن طرف عربي رسمي في أزمة وحرب الخليج, حيث إن إخفاء وتزوير وخلط الأوراق ما زال هو السائد, فإننا نورد ما تم تداوله شعبياً (وهو ما تقتنع غالبية الشعب الأردني بأنه الحقيقة ولا تقبل فيه جدال أحد) من أن الرئيس صدام أمر بإعدام حوالي عشرة من جنوده اتهموا بالقيام بأعمال اغتصاب عند اجتياح الكويت، وجعل مشانقهم أعمدة النور في الشوارع ليكونوا عبرة لغيرهم, مما أوقف أية ممارسة من هذا النوع.

وبغض النظر عمن سيؤيد أو يكذب هذه المعلومة أو أي تفصيل فيها, فإن تداولها بهذا الشكل يعكس اقتناعا شعبيا بأن القادة العظام لا يهبطون إلى هذا السلاح من جهة, ومن جهة تكتيكية عسكرية محضة هذه الرواية تعكس اقتناعا عاما بأن مثل هذه الممارسة هو بداية النهاية للمحتلين أو الفاتحين أو المحررين أو الموحدين، ولا تهم التسميات التي تتنوع حسب وجهات النظر أو المصالح.
فالحديث هنا عن ممارسة متوقعة في كافة الحروب بما لا يقبل معه زعم أن القيادات غافلة عنه.. أي بما لا يقبل أن لا تحمل القيادات وزرها, خاصة إن تفاقمت كما يجري في العراق الآن, وكما جرى في البوسنة ورواندا وبوروندي وغيرها.
بل إن أحد أهم أسباب فصل باكستان عن الهند (وهذا تؤكده روايات لتجارب شخصية لمن عايشوا تلك الحقبة) كان حملات الاغتصاب المتبادلة التي مورست بين المسلمين والهندوس, بتخطيط أو غض طرف أو لا مبالاة من جانب المحتل الإنجليزي.
والطريقة نفسها ستكون هي السبب الرئيس في أي فصل أو "تخصيص لوضع" إقليم دارفور في علاقته مع السودان.. كما أن أحد أهم أسباب الثورة الأيرلندية على الاحتلال الإنجليزي كان استمراء القادة العسكريين الإنجليز (وهم من النبلاء لأن الكليات العسكرية ومثلها كليات القانون والطب كانت حكراً طبقياً عليهم حتى أوائل القرن العشرين) ممارسة الاغتصاب المنظم بزعم أحقيتهم بكل عذراء أيرلندية ليلة عرسها.
وهذا أهم المسكوت عنه الذي يفسر عنف الجيش الأيرلندي وعملياته التي استهدفت مدنيين بريطانيين بلا تمييز, والذي حرصت أجهزة الإعلام الأنجلو أميركية بالمقابل على أن تصل أنباؤه وحده للعالم.
كما يفسر الاستماتة في النزعة الاستقلالية عن التاج البريطاني لقرون متواصلة وصولاً إلى الاتفاق الأخير الذي لا نعتقد أنه نهائي, بل نعتقد أن مشروع أوروبا الموحدة ساهم في إحلاله بأكثر مما ساهمت أميركا, لكون الأول وفر باباً -وإن كان موارباً أكثر منه مفتوحاً إلى الآن- لقبول وحماية الشعوب والإثنيات الأصغر الخارجة من تحت عباءات "الإمبراطوريات"!!
وتلك كلها شواهد من التاريخ تظهر اختلاط التخطيط مع الجهل واستمراء الرخصة غير الأخلاقية, في استسهال توظيف سلاح حده الثاني أمضى من حده الأول, لمن يعرف.. ولكن أميركا هي أكثر الإمبراطوريات جهلاً على امتداد التاريخ, بل تكاد تكون الإمبراطورية الوحيدة المفتقرة لأية سمة حضارية.

فهي أقرب لساحة واسعة اختلطت فيها "خردة" أوروبا ببعض تحفها التي وضعت في غير مكانها لسبب أو لآخر, بالكثير من الآليات الحديثة الكبيرة التي طحنت المكونين دونما تمييز!!
والأدهى أن من يقود الدب الأميركي في منطقتنا, وفي أكثر من بقعة هامة في العالم, كائن مشوه غير طبيعي وغير شرعي الولادة ولا سليم النمو, وهو إسرائيل.. تلك الدولة التي لم تنشأ طبيعية بل ولدت في غرفة حقيرة معتمة (كما ولدت "قلعة" كافكا) من فكر مريض بعقدة الاضطهاد الذي أصبح سلاح ذلك المولود الخاص ذا الحدين.
وقد أثبتت الوثائق التي تسربت في وقت مبكر من غزو أميركا للعراق, أن "خبراء" إسرائيليين خططوا لعملية التدمير هذه لكل ما يمت بصلة لحضارة العراق, ونصحوا بالاغتصاب المبرمج كأحد أهم وسائل التعذيب للعراقيين رجالاَ ونساء, في استثمار مريض لمفاهيم "الشرف" عند العرب!!
وفي هذا الاعتراف بأهمية "الشرف" عند العربي, اعتراف ضمني بضعف أو غياب مفهوم الشرف ذاك عند هؤلاء المخططين. ومن هنا جاء التوظيف الأهوج خالياً من المعرفة, فانقلب السلاح على حده الآخر!!
أبيات الشاعر العراقي "مظفر النواب" في وصف القدس بأنها عروس العروبة المغتصبة تحت سمع وصمت أهلها, كانت في البداية صادمة لأكثر من قارئ يتوقع الرقة في الشعر.. ولكنها كانت الأبيات الأكثر أثرا في الشارع العربي بلا تمييز.
وغدا مظفر النواب ضمير الأمة الناطق بكل المسكوت عنه باسم العيب أو الإنكار الذي يقول الأطباء النفسيون إنه يسم مرحلة بداية الصدمة, في حين أن الاعتراف هو بداية العلاج .. وقد اعترفت الصبية الجميلة "صابرين" كما اعترفت التركمانية ذات الخمسين عاماً أم الأحد عشر ولداً, والتي تبدو في السبعين أو أكثر!!
ولسوء حظ أميركا وأعوانها في العراق الذين وزعوا الأوسمة على المغتصبين, وأتباعها في المنطقة الذين شيدوا لها سجوناً لتعذيب واغتصاب مدفوعي الأجر(وهي حتماً مهنة ومصدر دخل أسوأ من إدارة بيوت مشبوهة), كان أول من استجاب لاستغاثة المغتصبات هو "القاعدة" التي أعلنت عن تطوع المئات للموت في عمليات تستهدف الثأر من مغتصبي الأرض والعرض, و"الجيش الإسلامي" المقاوم الذي أعلن عن تشكيل كتيبة "المعتصم" ومهمتها الحصرية هي الانتقام لأعراض العراقيات والعراقيين. أي أن الرد أو "الراية" بالأحرى تلقفتها تنظيمات مسلحة "إسلامية".

وبغض النظر عمن سيتوالى على الساحة من بعدهم فإن الكسب السياسي والإعلامي الأكبر حاز عليه التنظيمان لحظة تقدما لشغل مكان "المعتصم" الشاغر منذ أمد, بكل ما يعنيه هذا للوجدان الشعبي العربي, وبكل ما يحققه هذا من إعادة تمحور المقاومة العربية حول العراق, ليس كضحية أخرى فحسب بل ومرة أخرى كمنقذ للأمة الصارخة في البرية لحينه!!
أميركا "المعنية جداً" بجرائم الشرف في بلادنا باعتبارها الجريمة الوحيدة التي ترتكب بحق الشعوب التي اختُصرت (بضم التاء) - في تواطؤ عجيب مع أنظمة حكم عربية " بطركية" بكل معنى الكلمة السياسي والجنسوي- في نسائها (حاشاكم الله) , تورطت هي وأعوانها وأتباعها في أكبر جريمة شرف في التاريخ.
وبالذات حيث "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يسال على جوانبه الدم"!!
ولانشغال أميركا "بالجندر" الذي لم تكن له أولوية عند الشعوب العربية حتى تساوى رجالها مع نسائها في التعرض للاغتصاب المبرمج, فهي لم تتوقع وربما لم تدرك جيداً بعد, أن الدم الذي سيسال هذه المرة رداً على جرائم الشرف هذه, هو دم المغتصبين وليس دم الضحايا، وأن يتحول رجال "القاعدة" حلفاء طالبان -التي كانت تقمع النساء وتعدمهن في استعراض على الأستاد الرياضي- إلى منقذي النساء من الجنود الأميركيين ومن مليشيات أعوانها الذين نصبتهم وأسمتهم حكومات ومجالس نيابية وأحزابا سياسية!!
على المدى القريب كل أهل المنطقة المجروحون في شرفهم سيرحبون بالتحول الدموي.. وعلى المدى المنظور, ستتصاعد العمليات ضد مصالح أميركا وحلفائها خارج حدود العراق, لأن رد الفعل سيتسبب في فائض في الإنتاج لا تستطيع السوق المحلية استيعابه كله.ولأن الصمت الغربي والعربي الذي راهن على صمت الضحايا, بات يجسد التواطؤ بشكله الفج الجارح الذي صوره مظفر النواب.. أما على المدى البعيد فإن "الديمقراطية" التي انتحلتها أميركا وكفرت بها القاعدة, ستكون ضحية هذا الانتحال الذي سقط وهذا التكفير الذي عاد وصعد.. مما سيزيد إنتاج العنف بما يدفع لمزيد من التصدير له!!.. بئست مشورة من لا شرف لهم, في شأن الشرف بالذات !!





المصدر: الجزيرة

0 Comments:

Post a Comment

<< Home