ممنوع التلفونات، خلينا علإيميلات
عناية جابر
القدس العربي
احيانا يتصل بي صديقي من فلسطين. يتصل بي من وقت لآخر بعض الاصدقاء الفلسطينيين، خصوصا في نوبات حروبنا.
انا لا استطيع الاتصال بهم تلفونيا من بيروت. ممنوع، يقول لي عامل السنترال عندنا، فالرقم الذي طلبت وصلك به، هو رقم يعني اسرائيل ودولة اسرائيل: انتِ تتصلين باسرائيل يا عيوني وهيدا ممنوع شو وين عايشة؟ ما بتعرفي بالقوانين .
كلمات ظلت تدوي في رأسي بعد ان طبش الخط في وجهي. انا اجبن من ان اخرق القوانين في العادة، غير انني لا املك من فلسطين سوي حفنة اصدقاء اريد ملامسة ارواحهم من خلال اصواتهم.
كما انني اخجل حين يكلمني احدهم، يسترشد من نبرة صوتي عن احوالي، فأروح اردد له العبارة ذاتها في كل مرة يهاتفني: مرسي لاتصالك، بس انا مافيني اتصل من هون، ممنوع، خلينا عالإيميلات .
شيء غريب يحدث. تلك فلسطين علي ما اعلم، هل ما عادت فلسطين؟ هل يحدث ان اصحابي يسألونني احوالي واحوال بلدي في الحرب وفي غيرها، ولا استطيع مبادلتهم السؤال في قلقهم وفلسطينهم وحربهم التي لا تكف، ونأيهم الذي يبدو بلا نهاية.اقلق حتي الموت احيانا حين اري علي التلفزيون هول ما يحدث لهم، واظل بكماء لان عامل السنترال يخوّنني ويغلق السماعة بوجهي فور سماعه الكود المريب.اغلب المكالمات الهاتفية التي تلقيتها في غضون حربنا الماضية كانت من الاصدقاء الفلسطينيين الذين يعرفون جيدا في فلسطين معني الوجع والموت اليومي والدمار. يعرفون معني الحفرة الهائلة التي ترديك فيها الحرب، فيهاتفونك رغبة في مشاركتك قلقك لانهم خبروه.
اغلبها من فلسطين، لا من ابوظبي ولا من دبي او من مصر او من الاردن. العراقيون ايضا يشاركونك هلعك، سوي ان اصدقائي من العراقيين لا يعيشون في العراق. لا اصدقاء عندي من عراقيي الداخل . كلهم من الخارج ويهاتفونني من باريس ولندن والدنمارك والسويد والمانيا وامريكا، وكل ما يخطر لك من بلدان علي خريطة العالم. اهاتفهم بدوري ويصلني بهم عامل السنترال بسهولة. الاتصالات الي كل العالم تعمل بسلاسة. خدمة تلفونية ممتازة شرط ان لا تنبس برقم فلسطيني. لا يصلهم صوتك هناك في الداخل، ولا كتبك ولا حبك ولا قلقك، فعامل السنترال لا يمزح في هذه الامور. العالم كله لا يمزح والقانون قانون وما من معاهدة تلفونات مع اسرائيل والحصار حصار فلا اصدقاء ولا من يحزنون. تواصلوا علي الإيميلات فقط، كأن الـ نت اخترع خصيصا لنحكي مع الفلسطينيين، وافكر انه أنسب وابلغ اكتشاف لوصف مشاعرنا، ولتبادل التحايا والقصائد والروايات والقصص والغصات.
احب ان اكلم صديقي فلان يا عامل السنترال: شو راح تخرب الدني اذا حيكت معو؟ اجابني وقد بدأ صبره ينفد قولي لدولتك ها الحكي. شو ناوية توديني عالحبس يا عمي قلتلك ممنوع، غريب امرك .
اجل غريب امري، وامية تماما مع عواطفي ولا افقه في المعاهدات واللعب تحت الطاولات والاعترافات باسرائيل او بغيرها. احزن فحسب من عجزي عن تطبيع مجرد مكالمة هاتفية مع صديق داخلي .افكر ايضا في موضة الجدران والعزل الحديثة، وافكر في الحصار، وبأن زياد يشبه عصفورا بلا ذيل، فلا يستطيع الطيران، ويفتقد الحس الجيد ويعاني صعوبة في التوازن، يختنق ويترنح يمــــينا وشمالا في طـــــــريق عـــودته من عــــند الحاجز الاسرائيلي الذي حال بينه وبين الذهاب الي البحر.
البحر بحرهم، ويمنعــــونهم. فكـــــرت ان اتلفن لزيــــاد ادعوه ان يأتي ليسبح عندنا، فعنـــــدنا البحر كتير ويكفـــينا معا، سوي انني تذكرت عامــــل السنترال الحريص علي ان لكل بحره.افتقر الي علاقة تبادلية مع ناس فلسطين من دون الدخول في دهاليز السياسة. افتقد الاكتمال الظافر لعملية سماع اصواتهم واسماعهم صوتي، كما لو انه مستحيل علينا الغناء والاحتفال بالاشياء كما نرغب ونحب، ومعلوم علي كل حال، انه لم يبق لنا من شيء نغنيه او نحتفل به.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home